هل ساروا -حقًا- على الماء؟

لا أدري، لربما فعلوها وفعلوا ما هو أكثر، فيبدو أن ذلك ورد من أكثر من طريق في حق بعض الصحابة والتابعين، ولسبب ما لا أجدني مهتم بتتبع مصادر مثل هذه الأخبار بالإضافة إلى أنني لا أريد المشي على الماء، تعجبني السباحة وكفى!

وتطاردني بعض القصص المشابهة على الانترنت، عمن ألف مؤلفًا ثم ألقاه في البحر قائلًا “إن كان خالصًا لله فلا يبل، وكان الأمر كذلك!” وهو الآن بين يدي الكثير من طلبة العلم، بل في صدور البعض منهم، وكذلك من أخفى كل مؤلفاته في مكان لا يعلمه إلا هو وحافظ على السر طيلة حياته، حتى إذا كان في مرض موته، أسر إلى أحد طلابه بمكان الكتب وطلب منه أن يجلس بجانبه ويراقب حركة يده فإذا استشعر أنه قد قُبِل عمله، سيبسط يده (يعني ذلك أن ينشر الكتب) وإلا فسيقبضها (فلا ينشر الكتب)، وكان أن بسطها وانتشر العلم الذي في كتبه إلى يومنا هذا.

لن أذكر أسماء هؤلاء ولا مصادر تلك الروايات، فهي تحتاج الكثير من العلم والوقت لتنقيحها وتتبعها لإثبات صحتها أو كذبها، بالإضافة إلى أنني كما ذكرت لا أهتم أصلًا بهذه القصص، وعلام الإهتمام وقد مررت بما هو أعجب من هذا في حياتي؟ نعم، رأيت مصحفًا يطير إلى بلاد شتى ويقرأ منه أشخاص من جنسيات مختلفة بعد وفاة صاحبه الذى لم يكن ليعرف هذه البلاد في حياته أصلًا، وعلمت أن رجلًا بلغ من إخلاصه أن ساق الله مالًا للمسجد والمدرسة الدينية التي بناها في قريته بواسطة شخص يقيم في بلد بعيدة تمامًا عن بلده، بالإضافة إلى أن كل معلوماته عن تلك البلد أن أهله يتحدثون العربية لكنه ما كان يستطيع أن يحدد مكانها على الخريطة أصلًا!


“رجل المهام الصعبة” لربما يبدو لقبًا مضحكًا أن يطلقه عليك أحدهم، ولكني أحبه، أو على الأحرى أحب أن أسمعه ممن أطلقه، ولكن هيهات فقد توفي جدي لأمي رحمة الله عليه، ولهذا الجد قصة!


في أول هذا العام (2017) كنت في زيارة لدولة إندونيسيا، زرت فيها عدة مدن منها: جاكرتا وجودجا وباندونج وأخيراً لامونجان، تلك القرية الصغيرة في شرق جزيرة جافا (أو جاوا كما ينطقها أهلها) ولهذه القرية قصة!


عرفت أخًا لي هناك من على الانترنت وقررت زيارته، واصطحبت معي مصحفي، ولهذا المصحف -أيضاً- قصة!


كان جدي رحمة الله عليه لا يفارقه مصحفه يوميًا، فهو يقرأ منه قدرًا بعد كل صلاة ويزيد شيئًا بعد العشاء، فإذا جاء رمضان رأيتنا نحن معشر الرمضانيون نتسارع لختم القرآن مرة أو مرتين ولربما ثلاث مرات عند أفضلنا!

أما جدي، فرمضان كان فرصته ليصل الليل بالنهار ويزيد من ورده الذي اعتاده طوال حياته، فإذا كانت ليلة عيد الفطر تجده عاكفًا على القراءة والصلاة حتى وقت صلاة العيد!

عرفته هكذا كل عام؛ وكل يوم؛ حتى في ذلك اليوم الذي زارنا فيه مهنئًا اختي على نجاحها في إتمام الشهادة الإعدادية مصطحبًا معه تلك الهدية التي كانت غير تقليدية، فقد أهداها مصحفًا حجمه متوسط وله غلاف جلدي أخضر اللون، مطبوع بعناية في إحدى دور طباعة المصاحف اللبنانية. لا أذكر ما الذي حدث بعد ذلك اليوم فقد كنت في الصف الأول الإعدادي حينها ولكن ما أذكره هو أن هذا المصحف قد آل إلي منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا هو مصحفي، يكتنفني بالهداية والنور والبركة أحيانًا وأصاب بالوحشة والإكتئاب أحيانًا كثيرة حين أهجره حفظًا وتلاوةً.

“محمد شهاب الدين ناصح أبو الخير” عرفته من الانترنت كما عرفت غيره الكثير بل وعملت مع أشخاص قرابة الخمس سنوات لم أرهم حتى الآن، يمكن أن أعدد صفاته ومحاسنه ولكن يكفي في المجمل أنه شخص “طيب” وبالنسبة لي هذه كافية لتجعلني أدخر من المال وأسافر له حين سنحت لي الفرصة فمعرفة الطيبين وصحبتهم كنز، وقد كان الشهر الذي مكثته في إندونيسيا متنقلًا بين عدة مدن من أروع ما فعلت في حياتي (بعد زواجي من رضوى، فصحبة الطيبين كنز كما قلت…)، يعمل في جاكارتا ولكنه نشيء في قرية صغيرة تسمى لامونجان.

من المفارقات العجيبة أن دولة إندونيسيا بها أكبر عدد من المسلمين في العالم، غير أنها دولة علمانية لا تدرس الدين في المدارس! فما كان من والد محمد شهاب صديقي إلا أن أخذ على عاتقه مسئولية بناء مدرسة صغيرة وملحق بها مسجد يعلم أطفال قريته القرآن واللغة العربية بعد انتهائهم من دراستهم النظامية في المدارس الحكومية، وأراه إن شاء الله مخلصًا في ما فعل رحمه الله، فقد سخر الله شهاب ابنه -بعد وفاته- ليضيفنى على شبكات التواصل الاجتماعية، و ألف بين قلوبنا قرابة الخمس سنوات حتى قررت أن ازوره في قريته مصطحبًا معي مبلغ من المال قد جمعته من تبرعات أهل الخير هنا في مصر للمدرسة والمسجد، فما أظن كل هذا حدث إلا باخلاص هذا الرجل، فذاك إخلاص تطير له الأموال في رحلة مدتها 14 ساعة بالطائرة لتهبط في يد الله أولًا قبل أن تهبط في تلك القرية الصغيرة لتنفع هؤلاء الأطفال.

والأعجب من هذا أن أنسى مصحفي هناك في مسجد المدرسة ويمكث هذا المصحف هناك قرابة عام كامل يقرأ منه الطلبة ويحفظون ويتدارسون آياته قبل أن استرده مرة أخرى بعد قرابة العام، فكم من الحسنات كان في ميزان جدي رحمه الله بفضل الله أولًا ثم فضل إخلاصه وحرصه على كتاب الله قراءةً وتدبرًا!

فمما بدا لي أن الإخلاص له مفعول السحر، يسخر الله به الكون لنفع صاحبه! أليس هو مدبر الكون ومن إذا أراد شيئا أن يقول له كن… فيكون؟ فاللهم استعملنا ولا تستبدلنا.

هل ساروا -حقًا- على الماء؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *